مداخلة للدكتور محمد الامين ولد الكتاب حول دور واشعاع مدينة وادان

مداخلة للدكتور محمد الامين ولد الكتاب حول دور واشعاع مدينة وادان في الفضاءين المغاربي والساحل الصحراوي من الفترة الوسيطية الى القرن الثامن عشر. وذلك من خلال
تقديم لكتاب ” وادان إحدى أقدم حواضر بلاد شنقيط” من تأليف محمد الامين ولد الكتاب نفسه . وكان ذلك فى ١١ نونبر ٢٠٢١ ابان المهرجان العاشر لمدائن التراث .طبعة وادان.
وهذا نص المداخلة:
لقد قامت وزارة الثقافة و الصناعة التقليدية و العلاقات مع البرلمان مؤخرا ، بالإشراف على طباعة و نشر مجموعة من الكتب، عمدت إلى إنتاجها كوكبة من المؤلفين الموريتانيين ، وذلك بدعم و إسناد من الوزارة . وقد كان لنا الشرف شخصيا ، في الإسهام في هذا المجهود الفكري. وذلك بإعداد كتاب بعنوان:
” وادان إحدى أقدم حواضر بلاد شنقيط ، نبذة عن تأسيسها و مؤسسيها و مختلف هجراتهم منها.” في هذا الكتاب ، حاولنا إظهار العلاقة بين عمران المدينة عقب إنشائها ، ووفرة مواردها من جهة ، و بين كثافة سكانها و تعدد أعراقهم و تباين نحلهم و مذاهبهم من جهة أخرى، مبينين أن الحيز الجغرافي الذي كان يكتنف المدينة ، قد عرف منذ زمن طويل هجرات بشرية متعاقبة.
و من بين المجموعات البشرية التي ذكرنا وصولها تباعا إلى مدينة وادان ، ابتداء من القرن الأول الميلادي، تجدر الإشارة إلى قبائل أغرمان المسيحية ، القادمة من غرما بليبيا ، و التي انتدبها الرومان لخفارة طرق الذهب ببلاد الملثمين لدى اكتساحهم لها ، وكذا قبائل إيزوكاغن الوثنية ، القادمة من وادي درعة بجنوب المغرب ، و مجموعات أخرى من أصول صوننكية .
إضافة إلى قبائل البافور ، ذات الديانة اليهودية ، القادمة من منطقة الجريد الجزائرية ، فضلا عن مجموعات إحرضانن و إيرناكن وغيرهم .
هذا عدى عن الهلاليين و المعقليين و لوداية ، و سواهم من القبائل العربية المختلفة، الوافدة من الجزيرة العربية ،عبر صعيد مصر وغيره من المنافذ الأخرى .
ما يظهر أن النسيج الإ جتماعي بمدينة وادان ، كان منذ نشأنه ، و لوقت طويل، يتسم بتنوع عرقي، و تباين ثقافي و عقدي . حيث كانت قبيلة مسوفة السنية ، تتساكن مع قبائل البافور ذات الديانة اليهودية ، كما أسلفنا، و قبائل أغرمان المسيحية ، و مع مجموعات إيزوكاغن الوثنية . ناهيك عن مختلف طوائف الخاوارج من إباضيين و صفريين و غيرهم . و قد استمرت تلك التعددية الدينية و ذلك التنوع المذهبي ، إلى أن بسط أمراء المرابطين سيطرتهم على وادان ، في أوائل القرن الحادي عشر ( 1075م) ، وإلى أن قاموا بالقضاء على الديانات المخالفة للإسلام ، و باجتثاث شأفة المذاهب المغايرة للمذهب السني المالكي من المدينة و محيطها.ومن هنا يتضح ، كما أسلفنا ، أن النسيج الاجتماعي لمدينة وادان ظل لفترة من الزمن، يتسم بتعدد عرقي و تنوع عقدي. و استمر الأمر كذلك إلى أن أحكمت مسوفة قبضتها على المدينة ،
وفرضت نفوذها على القبائل التي كانت تتعايش معها في ذلك المجال الجغرافي ، نتيجة لما قد سبق ذلك من توغل جيش عبد الرحمن ابن حبيب ابن أبي عبيدة في المنطقة ، وما مهد له ذلك التوغل لاحقا ، من إحكام سيطرة أبي بكر ين عامر على وادان و محيطها ، و ما تلا تلك السيطرة من توافد معتنقي الفكر االمرابطي وأشياعه على المدينة و احوازها . و ما مهد له ذلك من التفاف كبريات قبائل صنهاجة حولهم وتبنيها لمذهبهم.
ولقد أوضحنا أيضا في المؤلف ، أن وجود وادان في منطقة تماس يبن الشمال الإفريقي المصاقب أوروبا، و الساحل الصحراوي المتاخم لإفريقيا السوداء، جعل من المدينة ميناء صحراويا مزدهرا ، وبؤرة تمازج اجتماعي، وفضاء تبادل تجاري، و مركز إشعاع علمي و روحي نابض. وتبعا لكل ذلك، ذاع صيت المدينة في بلدان الساحل و الصحراء ، و شمال إفريقيا ، و أرويا،
ما قاد إلى إدراج اسمها منذ القرن الرابع عشر، ضمن الأطلس الجغرافي الأوربي, و أهلها ، بالتالي للمساهمة في نظام التجارة الأطلسية ، أكثر من سواها من المدن الساحلية الصحراوية الأخرى. ولقد أثار موقع المدينة الإستراتيجي ، و دورها الاقتصادي ، و تأثيرها الفكري والروحي، اهتمام العديد من الرحالة و المستكشفين و المدونين و المؤرخين العرب و الأفارقة و الأوربيين من أمثال : حسن الوزان ومرمول كراباخ والبلاذري و فالنتينو فبرناندش و باتشيكو بيريرا على سيل المثال لا الحصر.
هذا ولم يفتنا أن نبين في الكتاب أن حجم التبادل التجاري بالمدينة ، ونوعية السلع المتبادلة في أسواقها، قد حولاها تدريجيا إلى ملتقى طرق تجاري يعج بالحركة ويضج بالنشاط. و قد أوضحنا أيضا أن تأسيسها في أواسط القرن الثاني عشر بجوار القرى المسوفية التي كانت موجودة قبلها بالمنطقة ، و ما استتبعه ذلك من توافد النخب المرابطية المهتمة بالعلوم و المعارف التكميلية ، و التي عملت على بناء المساجد وتأسيس المحاظر بها .
كل ذلك جعل من وادان ، أول حاضرة علمية في البلاد، تم فيها وضع شرح شنقيطي صرف لكتاب مختصر الشيخ خليل ، ثاني كتاب يتم تأليفه في بلاد شنقيط، بعد كتاب الإشارة في تدبير شؤون الإمارة للإمام الحضرمي ألمرادي. كما تم جلب كتاب الحطاب إليها و تدريسه بها قبل أن ينتقل منها إلى أهم مراكز البلاد العلمية.
ومع الزمن، أضحت المدينة البوابة الأساسية التي تدخل منها المتون الواردة المغرب و مصر و المشرق و الأندلس. لتخرج منها نحو سائر الحواضر العلمية المجاورة لها مثل تينيكي وشنقيطي ثم ولاتة وتيشيت، و أروان و تينبوكتو و تيزغت و غيرها.
وقد أوضحنا في الكتاب ، من جهة أخرى ، مدى التنافس الشديد بين أباطرة مالي و ملوك الصونغاي و سلاطين المغرب وملوك كل من البرتغال و اسبانيا ، بين القرن الرابع عشر و السابع عشر، من أجل الاستيلاء على موارد المدينة الوافرة ، المطلوبة دوليا وقتها ، و السيطرة على أسواقها الزاخرة بمختلف أنواع السلع و البضائع الثمينة إ ذ ذاك. وقد بينا أيضا أن مدينة وادان كانت اعتبارا من القرن الرابع عشر منطلق هجرات بشرية متوالية باتجاه مانطق الترارزة و البراكنة و العصابة و تكانت ، لتنساح منها تدريجيا نحو أراضي مالي و السينيغال و جولوف و كايور .
ثم إلى غامبيا و غيرها من بلدان إفريقيا جنوبي الصحراء ، حيث عملت على نشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف و قامت بتعليم لغة الضاد و توطيد أسس الحضارة العربية الإسلامية في تلك الربوع.
وقد نوهنا في الكتاب كذلك إلى إجماع المؤرخين الوسيطيين الأفارقة والعرب ولأوروبيين ، على التأثير الاجتماعي و الاقتصادي والسوسيولوجي و الفكري و الروحي الكبير ، الذي ترتب عن الهجرات المتلاحقة التي وفدت تباعا من ودان و ضواحيه و انساحت ، على نطاق واسع، في منطقتى كنار و الترارزة . ثم عبرت نهر السنغال لتتوغل في منطقة الفوتا وما جاورها، حيث كان لهؤلاء الوافدين دور كبير في تحفيظ القرآن الكريم و نشر العلوم الدينية و اللغوية و مختلف المعارف التكميلية الأخرى . كما ساهموا في الجهاد ضد الوثنية، و ناهضوا الاسترقاق و العبودية و التسلط في كل الفضاء الجغرافي الذي كان يكتنفهم.
وقد أنفقوا أموالهم من أجل عتق المستعبدين من قبضة ملاك العبيد، و قدموا الدعم والعون لبعض القبائل التي تضررت من الحرب الأهلية التي عرفت في المنطقة “بشر بب” الثانية ، عندما وضعت تلكم الحرب أوزارها. و كان المهاجرون الوادانيون ، كما أظهرنا، يعيشون في تفاهم وانسجام مع السكان المحليين .
فقد أطلق السينيغاليون على طائفة من الوافدين الوادانيين إسم صوغوفارا وإسم دارمانكور على طائقة أخىرى ، واسم كانبيولا على المجموعة القادمة من قرية تفرلا، وإسم سادي على المجموعة الوافدة من قرية تفتل ، و هما قريتان مجاورتان لمدينة وادان كما هو معلوم. ولقد اشرنا أيضا إلى أن العديد من المؤرخين الوسيطيين السودانيين ، و على وجه الخصوص، المختار امبي الحاجي و الشيخ سعبوه كامارا وغيرهم من المؤرخين الشناقطة ، يعتبرون أن العديد من قبائل الولوف و قبائل أورولبا orloba و الفولبي foulbe في وادي السينيغال ، و بعض قبائل واطابي الفلانية في ماسنا ، هي في الغالب ذات جذور وادانية.
و يسود الإعتقا د لديهم كذلك ، أن مؤسسي الدولتين الإسلاميتين في الغرب الإفريقي ،سليمان بال و الشيخ احمد بن محمد لابو ، هما كذلك من أصول وادانية.
ولقد بينا إضافة إلى كل ما تقدم ذكره ، أن ما عرفته مدينة وادان خلال القرون الوسطى من تمازج عرقي و ازدهار اقتصادي و تفاعل اجتماعي و إشعاع فكري ، هو ما قد أثار انتباه أباطرة مالي و سلاطين المغرب و ملوك كل من البرتغال و إسبانيا إلى وادان.
و هو أيضا ما استقطب اهتمام مدوني و مؤرخي و علماء هذه البلدان إلى المدينة،
حيث قام العديد منهم بالكتابة عنها لدى زياراتهم لها ، أثناء الحملات العسكرية المتوالية التي استهدفتها بغية السيطرة عليها ، والتي كانوا قد حضروها. وهذه الوضعية قد انفردت بها مدينة وادان عن غيرها من مدن بلاد شنقيط الأخرى ، بل و عن باقي حواضر المنطقة. ولقد نبهنا في الختام إلى أن ما تتوفر عليه مدينة وادان من تراث فكري ، و موروث معرفي ومعماري ، وعلمي زاخر هو، في التحليل النهائي ، منتوج جماعي قد أسهم في بلورته و تطويره ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، فاعلون اجتماعيون وسياسيون و اقتصاديون و ثقافيون مختلفون ، يشملون العرب ، و الأمازيغ ، و البمبارا، و الفولان ، و السوننكي، و السونغاي ، و الولوف ، بل و بشكل أو بآخر، البرتغاليين و الإسبان و غيرهم . ومن ثم فإنه قد لا يجانب الصواب من قال إن هذا التراث من الممكن إضافته ، في بعض أبعاده و تجلياته، ليس فقط إلى موريتانيا ، و إنما أيضا إلى كل من مالي و المغرب و إلى حد ما ، إلى السينيغال والبرتغال و إسبانيا . وإذا كان ذلك كذلك ، فإنه ينبغي لكل من هذه البلدان أن تهتم ، بدرجة أو بأخرى بهذا التراث ، و أن تتقاسم مسؤولية إعادة تأهيله و صيانته و تطوير مختلف جوانبه و أبعاده ، باعتباره إرثا مشتركا بينها جميعا . و قد يتمثل هذا المجهود المشترك حسب رأيينا، في سعي هذه البلدان الجاد ، إلى تنظيم مهرجانات سنوية ، وإقامة مواسم دورية في مدينة وادان ، تتضافر فيها جهود دول هذه البلدان مع مساعي إلهيآت الدولية المختصة بإحياء التراث، كاليونسكو والألكسو والإسيسكو و غيرها ، وذلك قصد انتشال هذا المورث التليد من الضياع و الاندثار، و العمل على إعادة تأهيله وترقيته و توظيفه على الوجه الأكمل ، وصولا ليس فقط إلى تقدم مدينة وادان وازدهارها و إنما أيضا إلى الارتقاء بكل المنطقة و النهوض بها على مختلف الصعد و المستويات .
محمد الأين ولد الكتاب.